كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي أن عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر).
كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لوهلكت أنا ووقع في نفسك هذا ولم تحرجوا به لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالًا فحالًا، وقال قتادة وابن زيد: أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا في عشرين سنة وقوله تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كنا} أي: دائمًا لعبادنا {منذرين} أي: مخوفين استئناف بين به المقتضى للأنزال وكذلك قوله تعالى: {فيها} أي: الليلة المباركة سواء قلنا إنها ليلة القدر أوليلة النصف {يفرق} أي: ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة {كل أمر حكيم} أي: محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحي به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيمانًا، قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل عمل وأجل وخلق ورزق وما يكون في تلك السنة، وقال عكرمة: ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد قال صلى الله عليه وسلم «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح النساء ويولد له وقد خرج اسمه في ديوان الموتى».
وعن ابن عباس: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدور، وروي: أن الله تعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر فدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال، قال ابن عادل: إلى إسرافيل وقال الزمخشري: إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت، قال الزمخشري: وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته وقوله تعالى: {أمرًا} أي: فرقًا حال من فاعل أنزلناه ومن مفعوله أي: أنزلناه امرين أو مأمورا به كائنًا {من عندنا} على مقتضى حكمتنا وقوله تعالى: {إنا كنا} أي: أزلًا وأبدًا {مرسلين} جواب ثالث أو مستأنف أو بدل من قوله تعالى: {إنا كنا منذرين} أي: لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد لابد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس فلا يكون لأحد على الله تعالى حجة، قال البقاعي: وهذا الكلام المنتظم والقول الملتئم بعضه ببعض المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الأنزال دال على أنه لم ينزل صحيفة ولا كتابًا إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها، وكذلك قوله تعالى في سورة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر).
فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمر الحكيم ثم بين تعالى حال الرسالات بقوله تعالى: {رحمة} وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: {منا} إلى قوله تعالى: {من ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الافاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس: معنى رحمة من ربك أي: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، وقال الزجاج: أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة {إنه هو} أي: وحده {السميع العليم} أي: أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أولم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها.
{رب} أي: مالك ومنشئ ومدبر {السموات} أي: جميع الأجرام العالية {والأرض وما بينهما} مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذوالعرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو، والمقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفًا بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة، فإن قيل: ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى: {إن كنتم موقنين}؟
أجيب: بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض ربًا وخالقًا فقيل لهم: إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمدًا عبده ورسوله.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طو ل الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى: {لا إله إلا هو} أي: وإلا لنازعه في أمرهما منازع، أوأمكن أن ينازع فيكون محتاجًا لا محالة وإلا لدفع عنه من يمكن نزاعه وخلافه إياه فلا يكون صالحًا للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والأنجاء لكل من يوافقهم على ممر الزمان وتطاو ل الدهر ومر الحدثان على نظام مستمر وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ثبت قوله تعالى: {يحيي ويميت} لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير وهو تنبيه على تمام دلائل التوحيد لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ويحال شيء من الأمر عليه فهما جملتان الأولى: نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية، مثبتة لما نفوه من البعث {ربكم} أي: الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها {ورب آبائكم الأولين} أي: الذي أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون فلم يقدر أحد منهم على ممانعة، ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة.
{بل هم} أي: بضمائرهم {في شك} أي: من البعث {يلعبون} أي: يفعلون دائمًا فعل التارك لما هو فيه من أخذ الجد الذي لا مرية فيه إلى اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه استهزاء بك يا أشرف الرسل فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» قال تعالى: {فارتقب} أي: انتظر بكل جهد عاليًا عليهم ناظرًا لأحوالهم نظر من هو حارس لها {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: ظاهر.
{يغشى الناس} أي: المهددين بهذا فقالوا عند إتيانه {هذا عذاب اليم} أي: يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه كما كنتم تؤلمون من يدعوكم إلى الله تعالى، واختلف في هذا الدخان فروى أبو الصفاء عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة قال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا، فأتينا ابن مسعود وكان متكئًا فغضب فجلس فقال: من علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} فإن قريشًا أبطأوا عن الإسلام فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف»، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أَبُو سُفْيَان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى لهم فقرأ {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} إلى قوله تعالى: {عائدون} وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانًا.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض فبسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء، الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه: أن الإنسان إذا اشتد خوفه أوضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
ونقل عن علي بن أبي طالب: أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، ويروى أيضًا عن ابن عباس في المشهور عنه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار». وقال صلى الله عليه وسلم «باكروا بالأعمال ستًا وذكر منها طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة» رواه الحسن. واحتج الأولون بأنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون:
{ربنا اكشف عنا العذاب} ثم عللوا بما علموا أنه الموجب للكشف فقالوا مؤكدين {إنا مؤمنون} أي: عريقون في وصف الإيمان فإذا حمل على القحط الذي وقع بمكة استقام، فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مشى إليه أَبُو سُفْيَان فناشده الله والرحم وواعده إن دعا لهم وأزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزالها الله عنهم رجعوا إلى شركهم، أما إذا حمل على أن المراد منه: ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} ولم يصح أيضًا أن يقال: {إنا كاشفوالعذاب قليلًا إنكم عائدون} قال البقاعي: ويصح أن يراد به طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت وراها الناس امنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها» ثم قرأ الآية.
{أنى} أي: كيف ومن أين {لهم الذكرى} أي: هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم، وقرأ حمزة والكسائي {أنى} بالإمالة محضة، وقرأ أبو عمرو بالإمالة بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح وأمال الذكرى محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وأمال ورش بين بين، والباقون بالفتح وكذلك {الكبري} {وقد} أي: والحال أنه قد {جاءهم} ما هو أعظم من ذلك وأدخل في وجوب الطاعة {رسول مبين} أي: ظاهر غاية الظهور، وموضح غاية الإيضاح، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأظهر دال قد نافع وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون.
{ثم تولوا عنه} أي: أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ {وقالوا} أي: زيادة على إساءتهم بالتو لي {معلم} أي: علمه غيره القرآن من البشر، قال بعضهم: علمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وقال آخرون: إنه {مجنون} أي: يلقي الجن إليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
{إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كاشفوالعذاب} أي: بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دعا فرفع عنهم القحط {قليلًا} أي: زمنًا يسيرًا، قيل: إلى يوم بدر، وقيل: ما بقي من أعمارهم {إنكم عائدون} أي: ثابت عودكم عقب كشفنا عنكم إلى الكفران لما في جبلاتكم من العوج وطبائعكم من المبادرة إلى الزلل، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل وقوله تعالى: {يوم نبطش} أي: بما لنا من العظمة {البطشة الكبرى} أي: يوم بدر منصوب باذكر أو بدل من يوم تأتي، والبطش: الأخذ بقوة {إنا منتقمون} أي: منهم في ذلك اليوم وهو قول ابن عباس وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس: أنه يوم القيامة.
{ولقد فتنا} أي: اختبرنا بما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الحال بالإبلاء والتمكين ثم الإرسال {قبلهم} أي: هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم {قوم فرعون} أي: مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا وسيأتي التصريح به في آخر القصة {وجاءهم} أي: فرعون وقومه زيادة في فتنتهم {رسول كريم} هو موسى عليه السلام قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه تعالى أعطاه أنواعًا كثيرة من الإكرام، وقال مقاتل: حسن الخلق، وقال الفراء: يقال فلان كريم قومه، قيل: ما بعث نبي إلا من أشراف قومه وأكرمهم ثم فسر ما بلغهم من الرسالة بقوله: {أن أدوا إلي} ما أدعوكم إليه من الإيمان أي: أظهروا طاعتكم بالإيمان لي يا {عباد الله} أوأطلقوا بني إسرائيل ولا تعذبوهم وأرسلوهم معي كقوله: {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} (طه).
{إني لكم} أي: خاصة بسبب ذلك {رسول} أي: من عند الله الذي لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه {أمين} أي: بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك وقوله عليه السلام:
{وأن لا تعلوا} معطوف على أنّ الأولى وأَنْ هذه مقطوعة في الرسم، والمعنى لا تتكبروا {على الله} تعالى بإهانة وحيه ورسوله {إني آتيكم بسلطان} أي: برهان {مبين} أي: بين على رسالتي فتوعدوه حين قال لهم ذلك بالرجم فقال: {وإني عذت} أي: اعتصمت وامتنعت {بربي} الذي رباني على ما اقتضاه لطفه وإحسانه إلي {وربكم} الذي أعاذني من تكبركم وقوة مكَّنتكم {أن ترجمون} أي: أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي فإني قلت: إني أخاف أن يقتلون فقال تعالى: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا فلا يصلون إليكما بآياتنا} (القصص).
فمن أعظم آياتي أن لا تصلوا مع قوتكم وكثرتكم إلى قتلي مع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني، وقال ابن عباس: أن ترجمون بالقول وهو الشتم وتقولوا: هو ساحر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {عذت} بإدغام الذال في التاء، والباقون بالإظهار، وقرأ ورش بإثبات الياء بعد النون في ترجمون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفًا وصلًا وكذلك {فاعتزلون} الآتي.
ولما كان التقدير فإن امنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم عطف عليه قوله تعالى: {وإن لم تؤمنوا لي} أي: تصدقوا لأجل ما أخبرتكم به {فاعتزلون} أي: كونوا بمعزل مني لا عليّ ولا ليّ فلا تتعرضوا إلي بسوء فإنه ليس جزاء دعائكم إلى ما فيه فَلا حُكم، والفاء في قوله تعالى: {فدعا} تدل على أنه متصل بمحذوف قبله وتأويله أنهم كفروا ولم يرضوا فدعا موسى عليه السلام {ربه} الذي أحسن إليه سياسته وسياسة قومه ثم فسر ما دعا بقوله: {أن هؤلاء} أي: الحقيرين الأذلين الأرذلين {قوم} لهم قوة على القيام فيما يحاولونه {مجرمون} أي: موصوفون بالعراقة في قطع ما أمرت به أن يوصل، فإن قيل: الكفر أعظم حالًا من الجرم فما السبب في أنه جعل الكفار مجرمين حين أراد المبالغة في ذمهم؟
أجيب: بأن الكافر قد يكون عدلًا في دينه وقد يكون فاسقًا في دينه والفاسق في دينه، أخس الناس. ثم تسبب عن دعائه لأنه ممن يستجاب دعاؤه قوله تعالى: {فأسر بعبادي} أي: بني إسرائيل الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي وقوله تعالى: {ليلًا} نصب على الظرفية، والإسراء: سير الليل، فذكر الليل تأكيد بغير اللفظ وإنما أمره بالسير بالليل لأنه أوقع بالقبط موت الإبكار ليلًا فأمر موسى أن يخرج بقومه في ذلك الوقت خوفًا من أن يموتوا مع القبط.
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت منعوهم الخروج وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصو ل إلى البحر فقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكدًا له لأن حال القبط عندما أمرهم بالخروج كان حال من لا يتهيأ له الخروج في قوله: {إنكم متبعون} أي: مطلوبون بغاية الجهد من عدوكم فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسبب وقوع الموت الناشئ فيهم، فإن القلوب بيد الله تعالى فهو ينسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم، فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بكم فلم أكلفكم بمباشرة شيء من أمرهم، وقرأ نافع وابن كثير {فاسر} بوصل الهمزة بعد الفاء، والباقون بقطعها، قال الزمخشري: وفيه وجهان إضمار القول بعد الفاء أي: فقال اسر بعبادي، وجواب شرط مقدر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول: فأسر بعبادي، قال أبو حيان: وكثيرًا ما يدعى حذف الشرط ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر أو ما أشبهه يقال: سرى وأسرى لغتان.